فصل: تفسير الآيات (83- 86):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (83- 86):

{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)}
ولما كان إبراهيم عليه السلام قد انتصب لإظهار حجة الله في التوحيد والذب عنها، وكان التقدير تنبيهاً للسامع على حسن ما مضى ندباً لتدبره: هذه مقاولة إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه، عطف عليه قوله معدداً وجوه نعمه عليه وإحسانه إليه، دالاً على إثبات النبوة بعد إثبات الوحدانية: {وتلك} أي وهذه الحجة العظيمة الشأن التي تلوناها عليكم، وهي ما حاج إبراهيم عليه السلام به قومه، وعظمه بتعظيمها فقال: {حجتنا} أي التي يحق لها بما فيها من الدلالة أن تضاف إلينا، لأنها من أشرف النعم وأجل العطايا {آتيناها} أي بما لنا من العظمة {إبراهيم} وأوقفناه على حقيقتها وبصرناه بها، ونبه على ارتفاع شأنها بأداة الاستعلاء مضمناً لآتينا وأقمنا، فقال: {على قومه} أي مستعلياً عليهم غالباً لهم قائمة عليهم الحجة التي نصبها، ثم زاد في الإعلام بفضله بقوله مستأنفاً: {نرفع} أي بعظمتنا {درجات من نشاء} بما لنا من القدرة على ذلك كما رفعنا درجة إبراهيم عليه السلام على جميع أهل ذلك العصر.
ولما كانت محاجته لهم على قانون الحكمة بالعالم العلوي الذي نسبوا الخلق والتدبير بالنور والظلمة إليه، وكان في ختام محاجته لهم أن الجاري على قانون الحكمة أن الملك الحق لا يهين جنده فلا خوف عليهم، وكان قبل ذلك في الاستدلال على البعث الذي هو محط الحكمة؛ كان الأنسب أن يقدم في ختم الآية وصف الحكمة فقال: {إن ربك} أي خاصاً لنبيه صلى الله عليه وسلم بالمخاطبة باسم الإحسان تنبيهاً على أن حَجبَه الدليل عمن يشاء لِحِكَم أرادها سبحانه، ففيه تسلية له صلى الله عليه وسلم {حكيم} أي فلا يفعل بحزبه إلاّ ما ظنه به خليله صلى الله عليه وسلم مما يقر أعينهم، إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما {عليم} فلا يلتبس عليه أحد من غيرهم، فيفعل به ما يحل بالحكمة.
ولما أشار إلى رفعته بأنه بصّره بالحجة حتى كان على بصيرة من أمره، وأنه علا على المخالفين برفع الدرجات، أتبع ذلك ما دل عليها وعلى حكمته بعلمه بالعواقب، فقال معلماً بأنه جعله عزيزاً في الدنيا لأن أشرف الناس الأنبياء والرسل، وهم من نسله وذريته، ورفع ذكره أبداً لأجل قيامه بالذب عن توحيده: {ووهبنا له} أي لخليلنا عليه السلام بما لنا من العظمة {إسحاق} ولداً له على الكبر حيث لا يولد لمثله ولا لمثل زوجته {ويعقوب} أي ولد ولد، وابتدأ سبحانه بهما لأن السياق للامتنان على الخليل عليه السلام، وهو أشد سروراً بابنه الذي متع به ولم يؤمر بفراقه وابن ابنه الذي أكثر الأنبياء الداعين إلى الله من نسله ومن خواصه، وهو الموجب الأعظم للبداءة أن أبناءه طهروا الأرض المقدسة التي هي مهاجر إبراهيم عليه السلام ومختاره للسكنى بنفسه ونسله، بل مختار الله له ولهم بعده بمدد طهورها من الشرك وعبادة الأوثان، ودعوا إلى الله ونوروا الأرض بعبادته.
ولما كانت النعمة لا تتم إلاّ بالهداية، قال مستأنفاً مقدماً للمفعول ليشمل الكلام إياهما: {كلاًّ} أي منهما ومن أبيهما {هدينا} ثم أتبع ذلك المهتدين قديماً وحديثاً تأكيداً لأن هذا المذهب لم يزل خلص العباد دعاة إليه في قديم الزمان وجديده، فكأنه يقول: إن كنتم تلزمون دينكم لأنه عندكم حق، فقد تبين لكم بطلانه، وأن الحق إنما هو التوحيد، وإن كنتم تلزمونه لِقِدَمِه فهذا الدين- الذي- دعاكم إليه رسولي مع وضوح الدلالة على حقيته- هو القديم الذي دعاكم إليه نوح ومن تلاه من خلص ذريته إلى إبراهيم أبيكم الأعظم ومن بعده من خلص ذريته إلى عيسى، ثم إلى هذا الرسول الذي هو دعوة إبراهيم وبشارة عيسى- على الكل أبلغ الصلاة وأتم التسليم، فهو أحق بالاتباع من جهة الحقية والأقدمية، وإن كنتم تلزمونه لمجرد اتباع الآباء فليس في أبائكم مثل إبراهيم عليه السلام، وقد تلوت عليكم في كلامي الذي أقمت الدليل القطعي بعجزكم عنه على صحة نسبته إلى ما حاج به أباه وقومه في إبطال الأوثان التي أضلتكم، فهو أولى آبائكم أن تعتدوا به- والله الموفق.
ولما كان ربما وقع في وهم أن هداية كل من إسحاق وابنه بتربية أبيه، ذكر العاشر من آباء الخليل وهو نوح عليهما السلام لدفع ذلك، ولأن السياق لإنكار الأوثان، وهو أول من نهى عن عبادتها، وهو أجلّ آباء الخليل عليه السلام فقال: {ونوحاً هدينا} أي بما لنا من العظمة من بين ذلك الجيل الأعوج.
ولما كانت لم تتجاوز منه، وكان زمنه بعض الزمن المتقدم، أثبت الجار وقطعه عن الإضافة لتراخي زمانهم كثيراً عن زمانه فقال: {من قبل} أي ولم تكن هدايته إلاّ بنا في زمان كان أهله من شدة الضلال ولزوم الظلم في مثل استقبال الليل، كلما امتد احلولك ظلامه واشتد، وطالما دعاهم إلى الله وربّاهم فلم يرجع منهم كثيراً أحد حتى لقد خالفه زوجه وبعض ولده، ولمثل ذلك فصل بين إسماعيل وأبيه ويوسف وأبيه عليهم السلام إشارة إلى فراق كل منهما لأبيه في الحياة، وأنه ما حفظ كلاًّ منهما على سنن الهدى طول المدى إلاّ الله؛ ثم ابتدأ المذكورين بعدُ بمن بنى على يده ويد ابنه مسجداً هو بعد المسجد الذي بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام فقال: {ومن ذريته}.
ولما كان السياق كله لمدح الخليل، وكان المذكورون- إلا لوطاً- من نسله، وكان التغليب مستعملاً شائعاً في لسان العرب، لاسيما ولوط ابن أخيه ومثل ولده؛ حكم بأن الضمير لإبراهيم عليه السلام، وقولُ من قال: إن يونس عليه السلام ليس من نسله، غير صحيح، بل هو من بني إسرائيل، وهو أحد من ذكر في سفر الأنبياء، وسيأتي خبره من السفر المذكور في سورة {والصافات} إن شاء الله تعالى، وقد صرح أبو الحسن محمد بن عبد الله الكسائي في قصص الأنبياء أنه من ذرية إبراهيم، واقتضى كلامه أنه من بني إسرائيل، كما اقتضى ذلك كلام البغوي في سورة الأنبياء عليهم السلام، وأما أيوب فروى؛ من نسل عيص بن إسحاق عليهم السلام {داود} أي هديناه {وسليمان} أي اللذين بنيا بيت المقدس بأمر الله: داود بخطه وتأسيسه، وسليمان بإكماله وتشييده.
وما كان مع ذلك ملكين، تلاهما بمن شابههما في الملك أو الحكم على الملوك فقال: {وأيوب} وقدمه لمناسبة ما بينه وبين سليمان في أن كلاًّ منهما ابتلى بأخذ كل ما في يده ثم ردّ الله إليه {ويوسف} وكل من هؤلاء الأربعة ابتلى فصبر، واغتنى فشكر، وأيوب إن لم يكن ملكاً فقد كانت ثروته غير مقصرة عن ثروة الملوك، على أن بعض الطلبة أخبرني عن تفسير الهكاري- فيما أظن- أنه صرح بأنه ملك، وأيضاً فالاثنان الأولان كانا سبب إصلاح بني إسرائيل بعد الفساد واستنقاذهم من ذل الفلسطين، والاثنان الباقيان كل منهما ابتلى بفراق أهله ثم ردوا عليه: أيوب بعد أن ماتوا، ويوسف قبل الموت، وأيضاً فداود عليه السلام شارك إبراهيم عليه السلام في أنه كان سبب سلامته من ملك زمانه الاختفاءُ في غار، وذلك أن نمرود بن الكنعان كان ادعى الإلهية وأطمع فيها، وقال له منجموه: يولد في بلدك هذا العام غلام يغير دين أهل الأرض، ويكون هلاكك على يده، فأمر بذبح كل غلام في ناحيته في تلك السنة، وأمر بعزل الرجال عن النساء، وحملت أم إبراهيم عليه السلام به في تلك السنة، فلما وجدت الطلق خرجت ليلاً إلى غار قريب منها فولدت فيه إبراهيم وأصلحت من شأنه، ثم سدت فم الغار ورجعت، ثم كانت تطالعه فتجده يمتص إبهامه، وكان يشب في اليوم كالشهر وفي الشهر كالسنة؛ وأما داود عليه السلام فإنه لما قتل جالوت وزوَّجَه طالوتُ ابنته، وناصفه ملكه- على ما كان شرط لمن قتل جالوت- مال إليه الناس وأحبوه، فحسده فأراد قتله، فطلبه فهرب منه، فدخل غاراً فنسجت عليه العنكبوت، فقال طالوت: لو دخل هنا لخرق بناء العنكبوت، فأنجاه الله منه؛ وتلاه بسليمان لأنه مع كونه من أهل الملك والبلاء شارك إبراهيم عليهما السلام في إبطال عبادة الشمس في قصة بلقيس رضي الله عنها؛ وقصة يوسف عليه السلام في إبطال عبادة الأوثان شهيرة في قوله تعالى: {يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} [يوسف: 39].
ولما كان يوسف عليه السلام ممن أعلى الله كلمته على كلمة ملك مصر وأعز ملكها وأهلها وأحياهم به، أتبعه من أعلى الله كلمتهما على كلمة ملك مصر وأهلها وأهلكهم بهما، فكأن بعض قصصهم وفاق، وبعضها تقابل وطباق، فقال: {وموسى وهارون} ولما كان التقدير: هديناهم جزاء لإحسانهم باهتدائهم في أنفسهم ودعائهم لغيرهم إلى الهدى، لم يشغل أحداً منهم منحةُ السراء ولا محنة الضراء، عطف عليه قوله: {وكذلك} أي ومثل ما جزيناهم {نجزي المحسنين} أي كلهم، ففي ذلك إشارة إلى علو مقامهم من هذه الجهة، وهي أنهم من أهل السراء المطفئة والضراء المسنية، ومع ذلك فقد أحسنوا ولم يفتروا ولم ينوا.
ولما كان المذكوران قبله ممن سلطهما على الملوك، أتبعهما من سلط الملوك عليهما بالقتل فقال: {وزكريا ويحيى} ثم أتبعهما من عاندهما الملوك ولم يسلطوا عليهما وأدام الله سبحانه حياتهما إلى أن يريد سبحانه فقال: {وعيسى وإلياس} ولما كان هؤلاء الأربعة من الصابرين، قال مادحاً لهم على وجه يعم من قبلهم: {كل} أي من المذكورين {من الصالحين} ثم أتبعهم من لم يكن بينهما وبين الملوك أمر، وهدى بهما من كان بين ظهرانيه فقال: {وإسماعيل واليسع} هذا إن كان اليسع هو ابن أخطوب ابن العجوز خليفة إلياس، كما ذكر البغوي في سورة الصافات أن الله تعالى أرسل إلى إلياس- وهو من سبط لاوي من نسل هارون عليه السلام- فرساً من نار فركبه فرفعه الله وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، وكساه الريش، فكان إنسياً ملكياً أرضياً سماوياً، وسلط الله على آجب- يعني الملك الذي سلط على إلياس- عدواً فقتله ونَبأ الله اليسع وبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل، وأيده فآمنت به بنو إسرائيل وكانوا يعظمونه وإن كان اليسع هو يوشع بن نون- كما قال زيد بن أسلم- فالمناسبة بينه وبين إسماعيل عليهما السلام أن كلاًّ منهما كان صادق الوعد، لأن يوشع أحد النقيبين اللذين وفيا لموسى عليه السلام حين بعثهم يجسون بلاد بيت المقدس كما أشير إليه في قوله تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسراءيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً} [المائدة: 12] وقوله: {وقال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما} [المائدة: 23] وأيضاً فكل منهما كان سبب عمارة بلد الله الأعظم بالتوحيد، فإسماعيل سبب عمارة مكة المشرفة، ويوشع سبب عمارة البلدة المقدسة- كما سيأتي في سورة يونس إن شاء الله تعالى.
ولما كان إسماعيل واليسع ممن هدى الله بهما قومهما من غير عذاب، أتبعهما مَن هدى الله قومه بالعذاب وأنجاهم بعد إتيان مخايله فقال: {ويونس} أي هديناه؛ ولما انقضت ذرية إبراهيم عليه السلام، ختم بابن أخيه الذي ضل قومه فهلكوا بغتة، فبين قصتي هذين الآخرين طباق من جهة الهلاك والنجاة، ووفاق من حيث إن كلاًّ منهما أرسل إلى غير قومه فقال: {ولوطاً} ثم وصفهم بما يعم من قبلهم فقال: {وكلاًّ} أي ممن ذكرنا {فضلنا} أي بما لنا من العظمة بتمام العلم وشمول القدرة {على العالمين} فكل هؤلاء الأنبياء ممن هداه الله بهداه وجاهد في الله حق جهاده، وبدأهم تعالى بإبراهيم عليه السلام وختمهم بابن أخيه لوط عليه السلام على هذه المناسبة الحسنة؛ وقيل: إن الله تعالى أهلك قوم إبراهيم- نمرود وجنوده- بعد هجرته، فإن صح ذلك تمت المناسبة في هلاك كل من قومه وقوم ابن أخيه لوط بعد خروج نبيهم عنهم، فيكون بينهما وفاق كما كان بين قصته وقصة يونس عليه السلام طباق.
ومن لطائف ترتيبهم هكذا أيضاً أن إسماعيل عليه السلام يوازي نوحاً عليه السلام، فإنه رابع في العدّ لهذا العقد إذا عددته من آخره، كما أن نوحاً عليه السلام رابعه إذا عددته من أوله، والمناسبة بينهما أن نوحاً عليه السلام نشر الله منه الآدميين حتى كان منهم إبراهيم عليه السلام الذي جعله الله أباً للأنبياء والمرسلين، وإسماعيل عليه السلام نشر الله منه العرب الذين هم خلاصة الخلق حتى كان منهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله خاتم الأنبياء والمرسلين، فهذا كان بداية وهذا كان نهاية، وأن المذكورين قبل ذرية إبراهيم عليه السلام وبعدها- وهما نوح ولوط عليهما السلام- أهلك الله قوم كل منهما عامة، وغيب هؤلاء في جامد الأرض كما أغرق أولئك في مانع الماء، وأشقى بكل منهما زوجته، بياناً لأن الرسل كما يكونون لناس رحمة يكونون على قوم نقمة، وأنه لا نجاة بهم ولا انتفاع إلا بحسن الاتباع، وأن ابن عمران اشترك مع إبراهيم عليهم السلام في أن كلاًّ من ملكي زمانهم أمر بقتل الغلمان خوفاً ممن يغير دينه ويسلبه ملكه، وكما أن الله تعالى أنجى إبراهيم عليه السلام وابن أخيه لوطاً عليه السلام من ملك زمانهما المدعي للإلهية فكذلك أنجى موسى وأخاه هارون عليهما السلام من ملك زمانهما المدعي للآلهة، وأنجى ذرية إبراهيم بهما، فإذا جعلت إبراهيم وابن أخيه لوطاً- لكونه تابعاً له- واحداً، وموسى وأخاه هارون واحداً لمثل ذلك، ونظمت أسماء جميع هذه الأنبياء في سلك النقي: لوط مع إبراهيم كموسى مع هارون، وكان الأربعة واسطة عقدة، فبين إبراهيم وموسى حينئذ سبعة كما أن بين هارون ولوط سبعة، وإذا ضممت إليهم المقصود بالذات المخاطب بهذه الآيات المأمور بقوله: {فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90] كان منزله في السلك بين ابن عمه لوط وأبيه إبراهيم، ويكون من بين يديه تسعة، ومن خلفه تسعة، فمن إبراهيم إلى موسى تسعة، ومن لوط إلى هارون كذلك، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم واسط العقد ومكمل العقد، فإنه العاشر من كل جانب، فبه تكمل الهدى وإيجاب الردى، وذلك طبق قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» وللبخاري نحوه عن جابر، هذا مع اقترانه بأقرب أولي العزم رتبة ونسباً صاحب القصة إبراهيم عليه السلام، وإن جعلت موسى وهارون عليهما السلام كشيء واحد كانا واسطة من الجانب الآخر، فإن عددت من جهة إبراهيم عليه السلام كان بينه وبينهما ثمانية، وإن عددت من جهة لوط عليه السلام كان كذلك.

.تفسير الآيات (87- 91):

{وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)}
ولما نص سبحانه على هؤلاء، وختم بتفضيل كل على العالمين، أتبعه على سبيل الإجمال أن غيرهم كان مهدياً، وأن فضل هؤلاء علة النص لهم على أسمائهم، فقال ترغيباً في سلوك هذا السبيل بكثرة سالكيه وحثاً على منافستهم في حسن الاستقامة عليه والسلوك فيه: {ومن} أي وهدينا أو وفضلنا من {آبائهم} أي أصولهم {وذرياتهم} أي من فروعهم من الرجال والنساء {وإخوانهم} أي فروع أصولهم، وعطف على العامل المقدر قوله: {واجتبيناهم} أي واخترناهم، ثم عطف عليه بيان ما هدوا إليه حثاً لنا على شكره على ما زادنا من فضله فقال: {وهديناهم} أي بما تقدم من الهداية {إلى صراط مستقيم} وأما الصراط المستقيم فخصصناكم به وأقمناكم عليه، فاعرفوا نعمتنا عليكم واذكروا تفضيلنا لكم.
ولما كان ربما أوهم تنكيرُه نقصاً فيه، قال مستأنفاً بياناً لكماله وتعظيماً لفضله وإفضاله: {ذلك} أي الهدى العظيم الرتبة {هدى الله} أي المستجمع لصفات الكمال {يهدي} أي يخلق الهداية {به} أي بواسطة الإقامة عليه {من يشاء من عباده} أي سواء كان له أب يعمله أو كان له من يحمله على الضلال أولا؛ ولما بين فضل الهدى ونص على رؤوس أهله، تهدد من تركه كائناً من كان، فقال مظهراً لعز الإلهية بالغنى المطلق منزهاً نفسه عما لوحظ فيه غيره ولو بأدنى لحظ: {ولو أشركوا} أي هؤلاء الذين ذكرنا من مدحهم ما سمعتَ وبينّا من اختصاصنا لهم ما علمت- شيئاً من شرك وقد أعاذهم الله من ذلك، وأقام بهم معوج المسالك، وأنار بهم ظلام الأرض بطولها والعرض {لحبط عنهم} أي فسد وسقط {ما كانوا يعملون} أي وإن كان في غاية الإتقان بقوانين العلم، وزاد في الترهيب من التواني في السير والزيغ عن سوء القصد بقوله: {أولئك} أي العالو الرتبة الذين قدمنا ذكرهم وأخبرنا أنهم لو أشركوا سقطت أعمالهم {الذين آتيناهم} أي بعظمتنا {الكتاب} أي الجامع لكل خير، فمن ملك ما فيه من العلوم والمعارف حكم على البواطن، وذلك لأن الناس يحبونه فينقادون له ببواطنهم {والحكم} أي العمل المتقن بالعلم، ومنه نفوذ الكلمة على الظواهر بالسلطنة وإن كرهت البواطن {والنبوة} أي العلم المزين بالحكم وهي وضع كل شيء في أحق مواضعه، فهي جامعة للمرتبتين الماضيتين، فلذلك كان الأنبياء يحكمون على البواطن بما عندهم من العلم، وعلى الظواهر بما يظهر من المعجزات؛ ثم سبب عن تعظيمها بذلك تعظيمَها بأنها لا تبور، فقال تسلية عن المصيبة بطعن الطاعنين فيها وإعراض الجاهلين عنها وترجية عندما يوجب اليأس من نفرة اكثر المدعوين: {فإن يكفر بها} أي هذه الأشياء العظيمة {هؤلاء} أي أهل مكة الذين أنت بين أظهرهم، وقد حبوناهم بها على أتم وجه وأكمله وأعلاه وأجمله، وأنت تدعوهم إلى أن يكونوا سعداء بما اشتملت عليه من الهدى وهم عنه معرضون، ولعل الإشارة على هذا الوجه لتحقيرهم {فقد وكلنا} أي لما لنا من العظمة في الماضي والحال والاستقبال {بها قوماً} أي ذوي قوة على القيام بالأمور بالإيمان بها والحفظ لحقوقها {ليسوا} وقدم الجار اهتماماً فقال: {بها بكافرين} أي بساترين الشيء مما ظهر من شموس أدلتها، وهم الأنبياء ومن تبعهم، وقد صدق الله- ومن أصدق من الله حديثاً! فقد جاء في هذه الأمة من العلماء الأخيار والراسخين الأحبار من لا يحصيهم إلا الله.
ولما كان المراد بسوقهم هكذا- والله أعلم- أن كلاًّ منهم بادر بعد الهداية إلى الدعاء إلى الله والغيرة على جلاله من الإشراك، لم يُشْغِل أحداً منهم عن ذلك سراء ولا ضراء بملك ولا غيره من ملك أو غيره بل لازموا الهدى الدعاء إليه على كل حال؛ قال مستأنفاً لتكرار أمداحهم بما يحمل على التحلي بأوصافهم، مؤكداً لإثبات الرسالة: {أولئك} أي العالو المراتب {الذين هدى الله} أي الملك الحائز لرتب الكمال، الهدى الكامل، ولذلك سبب عن مدحهم قوله: {فبهداهم} أي خاصة في واجبات الإرسال وغيرها {اقتده} وأشار بهاء السكت التي هي أمارة الوقوف- وهي ثابتة في جميع المصاحف- إلى أن الاقتداء بهم كان غير محتاج إلى شيء؛ ثم فسر الهدى بمعظم أسبابه فقال: {قل} أي لمن تدعوهم كما كانوا يقولون مما ينفي التهمة ويمحص النصيحة فيوجب الاتباع إلا من شقى {لا أسئلكم} أي أيها المدعوون {عليه} أي على الدعاء {أجراً} فإن الدواعي تتوفر بسبب ذلك على الإقبال إلى الداعي والاستجابة للمرشد؛ ثم استأنف قوله: {إن} أي ما {هو} أي هذا الدعاء الذي أدعوكم به {إلا ذكرى} أي تذكير بليغ من كل ما يحتاج إليه في المعاش والمعاد {للعالمين} أي الجن والإنس والملائكة دائماً، لا ينقضي دعاؤه ولا ينقطع نداؤه، وفي التعبير بالاقتداء إيماء إلى تبكيت كفار العرب حيث اقتدوا بمن لا يصلح للقدوة من آبائهم، وتركوا من يجب الاقتداء به. ولما حصر الدعاء في الذكرى، وكان ذلك نفعاً لهم ورفقاً بهم، لا تزيد طاعتهم في ملك الله شيئاً ولا ينقص إعراضُهم من عظمته شيئاً، لأن كل ذلك بإرادته؛ بني حالاً منهم، فقال تأكيداً لأمر الرسالة بالإنكار على من جحدها وإلزاماً لهم بما هم معترفون به، أما أهل الكتاب فعلماً قطعياً، وأما العرب فتقليداً لهم ولأنهم سلموا لهم العلمَ وجعلوهم محط سؤالهم عن محمد صلى الله عليه وسلم: {وما} أي فقلنا ذلك لهم خاصة والحال أنهم ما {قدروا} أي عظموا {الله} أي المستجمع لصفات الكمال {حق قدره} أي تعظيمه في جحدهم لذكراهم وصدهم عن بشراهم ومقابلتهم للشكر عليه بالكفر له؛ قال الواحدي: يقال قدر الشيء- إذا سبره وحزره وأراد أن يعلم مقداره- يقدره- بالضم- قدراً، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن غم عليكم فاقدروا له» أي فاطلبوا أن تعرفوه- هذا أصله في اللغة، ثم قيل لمن عرف شيئاً: هو يقدر قدره، وإذا لم يعرفه بصفاته: إنه لا يقدر قدره {إذ} أي حين {قالوا} أي اليهود، والآية مدنية وقريش في قبولهم لقولهم، ويمكن أن تكون مكية، ويكون قولهم هذا حين أرسلت إليهم قريش تسألهم عنه صلى الله عليه وسلم في أمر رسالته واحتجاجه عليهم بإرسال موسى عليه السلام وإنزال التوراة عليه {ما أنزل الله} أي ناسين ما له من صفات الكمال {على بشر من شيء} لأن من نسب مَلِكاً تام الملك إلى أنه لم يُثبِت أوامره في رعيته بما يرضيه ليفعلوه وما يسخطه ليجتنبوه، فقد نسبه إلى نقص عظيم، فكيف إذا كانت تلك النسبة كذباً! وهذا وإن كان ما قاله إلا بعض العالمين بل بعض أهل الكتاب الذين هم بعض العالمين، أسند إلى الكل، لأنهم لم يردوا على قائله ولم يعاجلوه بالأخذ تفظيعاً للشأن وتهويلاً للأمر، وبياناً لأنه يجب على كل من سمع بآية من آيات الله أن يسعى إليها ويتعرف أمرها، فإذا تحققه فمن طعن فيها أخذ على يده بما يصل إليه قدرته، كما أنه كذلك كان يفعل لو كان ذلك ناشئاً عن أبيه أو أحد ممن يكون فخره به من أبناء الدنيا، وفي ذلك أتم إشارة إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عماد الأمور كلها، من فرّط فيه هلك وأهلك؛ روى الواحدي في أسباب النزول بغير سند عن ابن عباس رضي الله عنهما ومحمد بن كعب القرظي أن اليهود قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء، فأنزل الله تعالى- يعني هذه الآية، فقال مشيراً إلى أن اليهود قائلو ذلك، وملزماً بالاعتراف بالكذب أو المساواة للأميين في التمسك بالهوى دون كتاب، موبخاً لهم ناعياً عليهم سوء جهلهم وعظيم بهتهم وشدة وقاحتهم وعدم حيائهم: {قل} أي لهؤلاء السفهاء الذين تجرؤوا على هذه المقالة غير ناظرين في عاقبتها وما يلزم منها توبيخاً لهم وتوقيفاً على موضع جهلهم {من أنزل الكتاب} أي الجامع للأحكام والمواعظ وخيري الدنيا والآخرة {الذي جاء به موسى} أي الذي أنتم تزعمون التمسك بشرعه، حال كون ذلك الكتاب {نوراً} أي ذا نور يمكن الأخذ به من وضع الشيء في حاقّ موضعه {وهدى للناس} أي ذا هدى لهم كلهم، أما في ذلك الزمان فبالتقيد به، وأما عند إنزال الإنجيل فبالأخذ بما أرشد إليه من اتباعه، وكذا عند إنزال القرآن، فقد بان أنه هدى في كل زمان تارة بالدعاء إلى ما فيه وتارة بالدعاء إلى غيره؛ ثم بين أنهم اخفوا منه ما هو نص وصريح في الدعاء إلى غيره اتباعاً منهم للهوى ولزوماً للعمى فقال: {تجعلونه} أي أيها اليهود {قراطيس} اي أوراقاً مفرقة لتتمكنوا بها من إخفاء ما أردتم {تبدونها} أي تظهرونها للناس {وتخفون كثيراً} أي منها ما تريدون به تبديل الدين- هذا على قراءة الجماعة بالفوقانية، وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالغيبة هو التفات مؤذن بشدة الغضب مشير إلى أن ما قالوه حقيق بأن يستحيى من ذكره فكيف بفعله! ثم التفت إليهم للزيادة في تبكيتهم إعلاماً بأنهم متساوون لبقية الإنسان في أصل الفطرة، بل العرب أزكى منهم وأصح أفهاماً، فلولا ما أتاهم به موسى عليه السلام ما فاقوهم بفهم، ولا زادوا عليهم في علم، فقال: {وعلمتم} أي أيها اليهود بالكتاب الذي أنزل على موسى {ما لم تعلموا أنتم} أي أيها اليهود من أهل هذا الزمان {ولا آباؤكم} أي الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم.
ولما كانوا قد وصلوا في هذه المقالة إلى حد من الجهل عظيم، قال مشيراً إلى عنادهم: {قل} أي أنت في الجواب عن هذا السؤال غير منتظر لجوابهم فإنهم أجلف الناس وأعتاهم {الله} أي الذي أنزل ذلك الكتاب {ثم} بعد أن تقول ذلك لا تسمع لهم شيئاً بل {ذرهم في خوضهم} أي قولهم وفعلهم المثبتين على الجهل المبنيين على أنهم في ظلام الضلال كالخائض في الماء يعملون ما لا يعلمون {يلعبون} أي يفعلون فعل اللاعب، وهو ما لا يجر لهم نفعاً ولا يدفع عنهم ضراً مع تضييع الزمان.